أبريل 26, 2024

لم تكن الطفلة لانا ذات 12 سنة تدرك أنّ مصيرها سيكون حرق يدها وجزءاً من رقبتها من قبل جدتها والدة أبيها، والسبب الذي دفع الجدة لارتكاب أسلوب الحرق لأنها كانت تأخذ المال من بيت جدها من دون استئذان، وتحولت إلى عادة السرقة، فما كان أمام جدتها إلا طريقة حرقها لتخويفها ومنعها من ذلك.
لانا تعيش في ظروف أسرية سيئة وتزوجت أمها بعد وفاة والدها منذ مدة، تاركة طفلتها مع عائلة زوجها لتبقى لانا وحيدة بلا أب أو أم، ويكون مصيرها العنف فهي لا تعيش كبقية أقرانها في ظل أسرة مستقرة نوعاً ما.
يقول الباحثون في علم الاجتماع: إنّ العنف سلوك مكتسب وليس فطرياً، يكتسبه الفرد من التنشئة الاجتماعية، وأهم أسبابه حالياً الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي فرضتها الحرب، ويرون أن العنف الأسري حالة طارئة على المجتمع المحلّي, ويمكن تخطيها بالوعي, وتوفر البدائل لدى الأفراد والأسرة.
لا يعني عدم وجودها
رئيس الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان- الدكتور أكرم القش يقول: إنّ ظهور حالات العنف في الوقت الحالي لا يعني عدم وجودها سابقاً، فنحن في زمن حرب وانفتاح كبير على وسائل التواصل الاجتماعي, وعرضة لحالات العنف بشكل متكرر يجعله يبدو كأنه أحد البدائل المتاحة أمام الزوج أو الزوجة لممارسة السلوك ذاته، لافتاً إلى أنّ أهم أشكال العنف هو الضرب والعنف اللفظي، والإهمال والتقصير وعدم متابعة التعليم، مؤكداً أننا نحتاج بعد الحرب إلى دراسات ميدانية لتشخيص الواقع لكيلا تأخذنا «الميديا» والانطباع العام إلى نسب قد لا تكون دقيقة، لذلك يجب أن نرى ميدانياً حجم الظاهرة وأين انتشارها؟, من أجل الحد منها بشكل منطقي، علماً أنه لا توجد حالياً إحصاءات عن حجم العنف في سورية.
حالات طارئة
د: القش ذكر أنه توجد حالات عنف تعد شاذة ومخيفة، لكن المطمئن فيها أنها لا تنبع من ثقافة المجتمع وهي طارئة و يمكن السيطرة عليها من خلال الوعي وإيجاد البدائل أمام الأسرة والأفراد، مثلاً الطفل المتسّرب من التعليم يكون نشاطه الاجتماعي وعلاقته محدودة ضمن الأسرة, حيث إن العنف يكون أحد البدائل المتاحة أمامه، أما عندما ينخرط بالتعليم وتصبح لديه مشاركات اجتماعية تقل ظواهر العنف سواء ضد الطفل أو المرأة أو الرجل وضد المسنين أيضاً، مبيناً أنه عندما تتكرر مشاهد العنف عبر وسائل التواصل والإعلام فإنها تصبح مقبولة, ويعتادها المجتمع وهذا خطأ، ومن هنا نقول: إننا نحتاج إلى صور بديلة أخرى للأسرة والأفراد لكي يتعاملوا معها بهدف التخفيف من الظواهر العنفية.
سلوك مكتسب
بدورها الباحثة الاجتماعية- مي برقاوي أوضحت أن العنف النفسي هو أي فعل من أحد أطراف الأسرة أو من الأقرباء الذين يعيشون في نطاق هذه الأسرة، ويؤدي إلى إيذاء أو إساءة جسدية أو نفسية معاً، والعنف سلوك مكتسب وليس فطرياً، يكتسبه الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية وتظهر آثاره بشكل واضح، فالآثار الجسدية «رضوض – جروح – حروق وكدمات», أما الآثار النفسية الناتجة عن العنف النفسي فهي:« خوف – بكاء – اكتئاب – ضعف الثقة بالنفس – والشعور بالنقص- فقدان الأمان».. كل ذلك يؤدي إلى تهديد حياة الأولاد المعنفين وصحتهم النفسية في مختلف مراحلهم.

وذكرت برقاوي أنّ هناك أسباباً متعددة تؤدي لوجود العنف في الأسرة أهمها الاجتماعية, حيث يحصل العنف في الأسرة نتيجة ضعف السيطرة على الانفعالات السلبية من أحد الأبوين أو كليهما معاً أو أحد الإخوة، كذلك الطلاق من دون تخطيط واعٍ من الأبوين والتصارع بينهما وعدم تحمل مسؤوليتهما تجاه أولادهما، كما يأتي العنف من عدم وعي الأسرة بخصائص كل مرحلة عمرية للأولاد كالطفولة المبكرة والمراهقة, وما تنطوي عليها من حاجات« عاطفية -نفسية- اجتماعية- اقتصادية ومعرفية»، واعتماده على العادات والتقاليد, وخاصة فيما يخص الإناث كالعنف المبني على النوع الاجتماعي والصورة النمطية للإناث, وأبرز أشكاله الزواج المبكر، مشيرة إلى أنّ الأسباب الاقتصادية لوجود العنف حالياً هي نمط الحياة الحديث المتغير الذي يعتمد بشكل أساس على ضرورة وجود دخل كبير لتحقيق حاجات الأولاد، إلا أنّ معظم الأسر غير قادرة على ذلك أو حتى تحقيق الحد الأدنى من الحاجيات الأساسية، والبعض منهم تحت خط الفقر, ما ينعكس على الأولاد سلباً فيدفعهم إما للهروب من المنزل وإما التسرب من المدرسة والانغماس في الانحرافات الأخلاقية والإدمان والسرقة، مضيفة أنّ هناك أسباباً للعنف ناتجة عن ظروف خارج نطاق الأسرة كالحروب والأزمات التي تعصف بالمجتمع, حيث إنّ فقدان أحد أفراد الأسرة, وخاصة رب الأسرة المعيل وتنقل الأسرة باستمرار والبحث عن الاستقرار، وتالياً فقدان عمل الأبوين تؤدي إلى حرمان مادي ينعكس على النشء بالتشرد والتسيب كذلك تنقل الأولاد في بيئات مختلفة تخلق لديهم مشاكل من عدم التكيف مع المحيط الاجتماعي, وخاصة أقرانهم في «المدرسة – الشارع- الحي» ما يجعلهم يشعرون بالنقص, ويتجلى ذلك بالعزلة وعدم الاختلاط أو بالعدوانية أحياناً غير المبررة والعنف تجاه أقرانهم أو إخوتهم أو أبويهم داخل المنزل.
إجراءات للحد من العنف
وذكرت برقاوي أنّ الإجراءات اللازمة للحد من هذه الظاهرة تتطلب تكاتفاً وتنسيقاً بين الشبكة الاجتماعية المحيطة بالأسرة, للقيام بدور التوعية والتثقيف لكيفية مواجهة هذه الظاهرة كالمدرسة والمؤسسات الاجتماعية التي تعنى بشؤون الأسرة، المراكز الثقافية في كل منطقة، وأيضاً وسائل الإعلام وما تقوم به من دور توعوي من خلال برامج التلفاز واستطلاعاته, ورصد الحالات المعنفة وإيجاد الحلول المناسبة له, مشيرة إلى أنه في ظروف الحرب هذه تتطلب مؤسسات متخصصة أكثر لحماية الأسرة تعنى بمشكلات الآباء والأولاد معاً بإشراف طاقم إرشادي نفسي اجتماعي طبي لوضع الخطط والبرامج للأشخاص المعنفين في الأسرة والأنشطة اللازمة لتفريغ طاقاتهم السلبية وانفعالاتهم الحادة كرياضة معينة:« رسم – موسيقا – مسرح»، إضافة إلى تأمين فرص عمل للكبار، وتفعيل أكبر للتشريعات القانونية والاجتماعية والقضائية لحماية الأشخاص المعنفين في الأسرة وإعادة تأهيلهم نفسياً واجتماعياً.
حرب خفية
المعالجة النفسية والدكتورة- مرسلينا حسن أشارت إلى أن العنف الأسري بمنزلة حرب حقيقية خفية قد تمتد لأجيال عدة حتى بعد انتهاء الحرب، وأنّ تبعياتها السيئة تستمر بحرب خفية ربما تكون أشد وطأة إن لم يتم العمل بآليات صحيحة لرفع الوعي بالصحة النفسية لأركان الأسرة, مستنداً للوعي بالمسببات التي جعلت الآباء أو بديل الآباء الذين غيبتهم الحرب, إما موتاً وإما تهجيراً أو عجزاً عن المقدرة على إكمال الحياة بثقة وتوافق بعد كل المتغيرات التي فرضتها الحرب عليهم من تحملهم لمسؤوليات أكثر من طاقة الاحتمال،
إنّ تأثير الصدمات النفسية يختلف من شخص لآخر ويسمى بما يعرف «اضطراب ما بعد الصدمة». علماً PTSD
مساران
إنّ برامج الدعم النفسي لظاهرة العنف الأسري تقتضي العمل على مسارين وأشارت د: حسن إلى:
الأول: يكون من خلال جلسات متابعة نفسية فردية للمعنفين للحصول على الدعم النفسي الكفيل بتخطي الألم الحاصل من فقد الأمان الجسدي والنفسي المتسبب لهم من جراء العنف الذي تلقوه داخل أسرهم من حيث يفترض بهم الاحتضان والمساندة. والثاني: يكون من خلال برنامج علاج جماعي لجميع الأشخاص في المحيط القريب الذين لديهم المشاكل نفسها داخل الأسرة، وأيضاً من الحلول الهامة للحد من للعنف محاربة عمالة الأطفال من قبل الدولة حيث الأطفال الذين يلجؤون إلى هذا الأسلوب من تدبر حاجاتهم في عمر مبكر يكون لديهم استعداد كبير ليعيشوا عنفاً ضد أنفسهم وأسرهم.
طرق غير جيدة

إن الطرق غير الجيدة لاستعادة التكيف النفسي بعد الظروف المتعثرة التي ترغم الأفراد على تغيير إيقاع الحياة بسبب الخوف وانعدام الأمان النفسي هو الإدمان على المخدرات والكحول كسبيل لمحاولة التداوي الذاتي من خيبات الحياة، وتخدير الآلام النفسية المتحصلة أو محاولة الهرب منها لأن صاحبها يفقد مهارات التعامل الآمنة مع الضغوط, وهذا السلوك غير الصحي يجعل الأشخاص عنيفين في سبيل تلبية إشباع نزواتهم اللحظية ظناً منهم أنها تعيد لهم أمانهم وتوازنهم النفسي، وهذا العنف في الغالب ينصب على دائرتهم الضيقة داخل الأسرة أو المحيط الاجتماعي القريب من الأصدقاء والأقارب.
وختمت بالقول: إنّ العنف الأسري يشكل حرباً حقيقية لما فيه من آثار مدمرة تفتك بأهم وأولى مؤسسات المجتمعات وهي الأسرة.

The post العنف الأسري حرب خفية تمتد لأجيال عديدة appeared first on صحيفة تشرين.

اقرأ ايضاً

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك