مايو 16, 2024

العميد الركن أحمد رحال: كلنا شركاء
على ضوء ارتفاع ضجيج التصريحات الأمريكية وما يقابلها من إجراءات روسية تبقى مدينة “حلب” وبقية المدن والبلدات السورية تدفع من رصيد بنك دماء أبنائها ثمن هذا الخلاف القديم المتجدد ما بين ورثة الاتحاد السوفييتي الذين يبحثون عن أمجادهم الغائبة وما بين الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد بقاء سيطرة القطب الأوحد على العالم, وما بين هذا وذاك تٌدمر سورية ويٌقتَل شعبها وتنتهك حرماتها ويبقى “بشار الأسد” محتفظاً بخازوق السلطة الذي يعني له أكثر بكثير ما تعني له سورية بأرضها وشعبها.
لكن يخطئ من يظن أن الخلاف الأمريكي_الروسي هو قادم على أعقاب الدمار والقتل الذي مارسته الطائرات الروسية مؤخراً في حلب وأحالت المدينة الأعرق والأقدم في التاريخ إلى مدينة أشباح يعيش فيها طلاب شهادة, فالولايات المتحدة الأمريكية هي من غضت الطرف عن التوغل والتدخل الروسي وإدارة “أوباما” كانت قادرة على منعه لكنها فضلت الصمت.
ويخطئ من يظن أن “أوباما” غضب للإجرام المتوحش الذي تمارسه الميليشيات الطائفية الإيرانية بمختلف أجناسها وتنوعها والتي يقودها الجنرال “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس, فأمريكا وعلى مدار خمس سنوات ونصف لم تتعرض لتلك الميليشيات ولم تأتِ على ذكرها ولو بقرار أممي واحد خشية على اتفاقها النووي مع إيران وإرضاءً لروسيا وحفاظاً ولو بشكل غير مباشر على نظام “الأسد”.
الولايات المتحدة الأمريكية الآن تقف عاجزة عن وقف تمدد الدب الروسي وتوغله في سورية بعد أن تماهت معه بكثير من القضايا والملفات والفبركات كالقول أن هناك قاعدة بحرية روسية في طرطوس, والجميع يعلم أن كل ما تملكه روسية ضمن مرفأ طرطوس هي نقطة إصلاح متقدمة لا تتعدى المستوى التكتيكي وهي عبارة عن ورشة إصلاح صغيرة تتمركز على الرصيف الشمالي للميناء الحربي في مرفأ طرطوس ويحاذيها براً مشفىً ميداني صغير لا تتجاوز أعداد أسرته عن (25) سرير إضافة لمهبط حوامة ميداني, تلك النقطة ضخمتها “موسكو” لتجعل منها قاعدة بحرية ولتقوم مؤخراً بنصب منظومتي صواريخ دفاع جوي (إس-400, وإس-300) وإرسال طرادين روسيين متطورين إلى مياه البحر المتوسط بذريعة تأمين الدفاع عن قاعدتها الوهمية في طرطوس, علماً أن أعماق مرفأ طرطوس والميناء الحربي بالذات غير قادر على استقبال أو رسو أي سفينة روسية نظراً لأعماقه القليلة والتي تقل عن غاطس السفن من مستوى مدمرة إلى حاملة طائرات مروراً بالطرادات.
مستوى غضب الأمريكان وارتفاع نبرة صوتهم لا ينم عن قوة التصرف بقدر ما ينم عن عجز اتخاذ القرار وضعف الاحتمالات وقلة الخيارات المتاحة, بل ومن المعيب على إدارة دولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية أن يبادر رئيسها وقائد قواتها المسلحة بدعوة قادة مراكز قراره في الأمن القومي لتقديم خياراتهم بعد خمس سنوات ونصف مما يحصل في سورية, متناسياً السيد “أوباما” أن لديه الكثير من الإمكانية والكثير من الفرص التي فوتها وتردد في اتخاذ القرار فيها وكانت كفيلة بحفظ ماء وجهه ومنع الدماء السورية من أن تكون رخيصة بيد جلاد روسيا وميليشيات خامنئي إيران.
الولايات المتحدة الأمريكية تدرك الآن أن وجود قاعدة “حميميم” وتحليق الطائرات الروسية ومنظومتي الدفاع الجوي (إس-400, وإس-300) حدت لدرجة المنع من إمكانية إقامة وفرض أي حظر جوي فوق سورية دون موافقة “موسكو”.
وأمريكا تدرك وتعلم أن انتشار الطيران الروسي في أربع قواعد جوية سورية (الشعيرات, حماه, تي فور, الضمير) قد حدت بشكل كبير من إمكانية توجيه أي ضربة جوية أمريكية لقواعد النظام ومطاراته التي تنطلق منها طائراته وحواماته لقتل الشعب السوري بسبب خوف البنتاغون من التعرض لطائرات الروس المتواجدة فيها.
وأمريكا تدرك الآن أيضاً أن تصويت البرلمان الروسي غداً (الجمعة) على إرسال قوات مشاة أرضية روسية إلى سورية سينهي أي أمل وأي خيار أمريكي بالتدخل في سورية عسكرياً.
وبالتالي أصبحت أمريكا على قناعة كاملة بأن ما قاله السيناتور “جون ماكين” هي الحقيقة, وبأن أمريكا باعت سورية وتخلت عنها لإيران وروسيا, فالتغاضي الأمريكي عن توغل الميليشيات الطائفية الإيرانية قلل من إمكانية إيجاد أي حل سياسي نظراً لأجندة إيران التي تعتبر سورية هي المحافظة (35) من ممتلكاتها, وأن أمريكا تركت روسيا تسرح وتمرح وبالتالي وصلت للحظة العجز بالتدخل حتى العسكري كونها فرغت وتركت كامل الساحة لعدوتها موسكو.
لكن وبرغم كل هذا المشهد المأساوي الذي يعيشه أهل “حلب” بشكل خاص وأهل سورية بشكل عام إلا أن الإدارة الأمريكية والرئيس “أوباما” شخصياً ما زالوا يملكون الكثير من الأوراق الضاغطة والكثير من الإجراءات الموجعة التي من الممكن أن تتخذها واشنطن وتؤلم موسكو وتردع إيران وتطرد الأسد من سدة الحكم (إن توفرت الإرادة).
على الصعيد العسكري ما زالت أمريكا قادرة على اتخاذ الكثير من الإجراءات منها:
– فرض حظر جوي جزئي فوق المدن والمناطق التي تتعرض للهجمات الجوية.
– قصف مدرجات القواعد الجوية التي تنطلق منها طائرات وحوامات “الاسد” لقتل الشعب السوري بعيداً عن الطائرات الروسية.
– فرض إدخال المساعدات وقوافل الإغاثة بالقوة العسكرية بعيداً عن موافقة ميليشيات النظام.
– تقديم معلومات استخباراتية وعسكرية للجيش الحر تخفف من وطأة الهجوم الروسي _الإيراني _الأسدي على مواقعه المكشوفة.
– تقديم وزيادة الدعم العسكري (الكمي والنوعي) لمواجهة الاعتداء على المناطق المحررة.
– إعادة توحيد الجيش الحر الذي مزقته أمريكا خدمة لأهدافها السياسية وتأمين عودة الضباط المنشقين لمواقعهم الطبيعية, فمكانهم ليس خارج الحدود ولا بالمخيمات.
أما على المستوى السياسي فما تزال “واشنطن” تمتلك الكثير من الأوراق الضاغطة والكثير من الإجراءات التي تستطيع القيام بها, منها:
– إعادة التنسيق مع أوروبا ومع دول الإقليم والدول العربية الراعية لقضية الشعب السوري الحر.
– زيادة العقوبات على “موسكو” ونظام “الأسد” وتفعيل المتابعة والتطبيق الصارم للعقوبات السابقة التي ما تزال حبراً على ورق.
– حشد الجهود الدبلوماسية الأمريكية لطرد نظام “الأسد” وممثله “الجعفري” من الأمم المتحدة ومن أروقة مجلس الأمن.
– كشف المستور ونشر الوثائق التي تملكها الاستخبارات الأمريكية والبنتاغون للجرائم والانتهاكات التي تمارسها كلاً من “موسكو” و”طهران” و”حزب الله” في سورية عبر حملة إعلامية قادرة على القيام بها “واشنطن”.
بالتأكيد كل ما تم ذكره كان يمكن القيام به أمريكياً ومنذ سنوات, لكن ممثلي الثورة ومعهم بعض أطراف الإدارة الأمريكية كانوا يصطدمون دائماً بـ”فيتو” أوبامي” بمنع التدخل بالشأن السوري والحفاظ على الابتعاد من التوغل داخل الرمال السورية المتحركة, لكن الآن وبعد أن تهددت المصالح الأمريكية وبعد أن نصب “بوتين” قواعده الجوية والصاروخية خلف أسوار “الدرع الصاروخي” لحلف الناتو, وبعد أن اخترقت الآلة العسكرية الروسية عمق المصالح الأمريكية وقربها من الخليج العربي ومنابع البترول وعودة إطلالتها على المياه الدافئة في البحر المتوسط, أصبح لزاماً على “واشنطن” التحرك حماية لمصالحها ومصالح حلفائها الأوروبيين الذي بدؤوا بالامتعاض والاشمئزاز من قرارات “أوباما” المترددة, ومن المسايرة والتماهي التي تتفرد بها الدبلوماسية الأمريكية عبر الوزير “كيري” والتي حابت روسيا وأبعدت كل شركائها الأوروبيين عن الملف السوري إرضاءً للوزير “لافروف”.
في ظل كل تلك التصريحات المتبادلة بين “واشنطن” و”موسكو”, وفي ظل كل تلك المواقف الكلامية التي تتخذها إدارة “أوباما” ويواجهها “بوتين” بإجراءات عملية وملموسة على الأرض تصَعب من مناورة الأمريكان وتقلل من خيارات “واشنطن” و”البنتاغون” الأمريكي, يبقى الشعب السوري يدفع من بنك دماء أطفاله ونسائه وشيوخه ثمن كل تلك الخلافات وثمن التردد الأمريكي باتخاذ قرار حازم يوقف شلالات الدم المهدورة على الساحات السورية.
قرار أهل حلب بشقيه المدني والعسكري تم حسمه ويتلخص بالمواجهة ومتابعة الطريق, وقرار الثورة السورية كان وما زال واضحاً بأنها لن تعود بأقل من رأس “الأسد”, وأن كل بيانات ومناشير طائرات نظام “الأسد” و”وروسيا” لا تصلح ثورياً حتى لدورات المياه.
لكن يبقى السؤال الذي يبحث عن إجابة: متى يدرك العالم ومراكز القرار الدولي أن الشعب السوري الحر لم يعد لديه ما يخسره, ولم يعد لديه ما يخشاه, وأنه ماض في طريقه حتى النهاية مهما كانت التضحيات ومهما كانت الأثمان, حتى ولو تخلى عنه كل العالم؟؟؟
العميد الركن أحمد رحال
محلل عسكري واستراتيجي



المصدر: العميد الركن أحمد رحال: دماء (حلب) ثمنٌ لتناحر (موسكو) مع (واشنطن)

انشر الموضوع