مايو 16, 2024

العميد الركن أحمد رحال: كلنا شركاء
اليوم نحن أمام ثلاث نقاط لا يمكن تجاوزها والمرور عليها مرور الكرام:
النقطة الأولى: النقلة النوعية بعمل الدبلوماسية التركية التي استطاعت حشد وجلب الموافقات على العملية العسكرية (درع الفرات) التي تمت (الأمس), وجعلت طهران تلوذ الصمت, وموسكو تبدي قلقاً بطعم الموافقة, وموافقة ومشاركة أمريكية قوية مع تحالفها الدولي, ولتصرح الخارجية الفرنسية بموقف يعبر عن أوروبا وموافقته للعملية العسكرية وتوظيفها في خانة الحرب المجدية على الإرهاب, أما بيان خارجية “الأسد” وجعجعة جماعة “صالح مسلم” فهؤلاء خارج التقييم ولا أحد يهتم لما يقولون.
النقطة الثانية: وهي النقلة النوعية بالتنسيق والتوافق العسكري بين فصائل الجيش الحر وألوية الجيش التركي, هذا التنسيق الذي منعت من إقامته الأجندات والخلافات الدولية, لكنها في عملية “درع الفرات” سمحت بتقدمه لأعلى المستويات, وكانت باكورة هذا التوافق والتنسيق تحرير مدينة “جرابلس” ومحيطها ودون أي خسائر تذكر مقارنة مع تعاون التحالف الغربي مع ميليشيات قوات سورية الديموقراطية التي أزهقت أرواح الآلاف ودمرت مدينة “منبج” وهجرت سكانها.
النقطة الثالثة: وتتمثل بقوة وثقة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على تحريك دبابات وعتاد وطائرات الجيش التركي, ذلك الجيش الذي ما انقضت أسابيع قليلة على حركته الانقلابية, والتي  كانت تود الإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية, واغتيال رئيس البلاد, تحريك الجيش من مدينة “غازي عنتاب” ومن “استانبول” باتجاه الحدود يعكس العلاقة الطيبة والمنضبطة والتصالح وعودة هذا الجيش ليمثل إرادة الشعب لا ذراع قوة للانقلابيين التي حرفة جزءاً منه عن مهامه.
معركة درع الفرات:
بالعودة للميدانيات وللعملية العسكرية التي جرت فجر اليوم في مدينة “جرابلس” والتي كانت تخضع ومنذ أكثر من عامين لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”, تلك المدينة التي تجاور الحدود التركية الجنوبية, وتغفو على الضفة الغربية لنهر الفرات, والتي تم اختيار موعدها ليتقاطع مع تاريخ معركة “مرج دابق” التي جرت بتاريخ 24_آب_عام1516م, أي على مسافة زمنية تبلغ 500 عام والتي جرت بين العثمانيين والمماليك وكأن تركيا أرادت إعادة أمجاد الماضي بمعركة اليوم.
معركة درع الفرات وعبر قطعات الجيش التركي وحشد مدفعي ودبابات مع طيران استطلاع لم يغادر المنطقة وشكل مظلة جوية لأكثر من عشرة فصائل من الجيش الحر تم إدخالها عبر معبر باب السلامة ولتقطع أكثر من (85)كم داخل الأراضي التركية وتتموضع قبالة مدينة “جرابلس” السورية في منطقة “قرقميش” التركية مع دعم لوجيستي وإداري وقتالي وفره الأصدقاء الأتراك, ومع تمهيد جوي وبري انطلقت صبيحة (الأربعاء) وبتمام الساعة الرابعة فجراً قوات الهندسة التركية لتفتح ثغرات وتراقب وتتأكد من ممرات العبور وتزيل المتفجرات التي وضعها تنظيم “داعش” على الطرق المحتملة لتقدم وهجوم فصائل الجيش الحر, تلتها الدبابات التركية ودبابات الجيش الحر التي عبرت عبر محورين (محور الحجلية ومحور قرقميش) ومن ثم تقدمت قوات الاقتحام من فصائل الجيش الحر.
الدبابات التركية (من اللواء الخامس مدرع الذي تقدم من غازي عنتاب باتجاه قرقميش ولحق به لواء آخر من استانبول) أمنت التغطية النارية وتموضعت على التلال والهضاب المحيطة بمدينة “جرابلس” دون أن تدخلها ولتبدأ مجموعات الاقتحام بالدخول إلى المدينة والبدء بعمليات التحرير, رغم أن عيون الاستطلاع وتعاون الأهالي المدنيين وعبر بلاغاتهم لإخوانهم من الجيش الحر نقلوا أن رتلاً داعشياً مع عربات وأسلحة متوسطة غادر مدينة “جرابلس” ليلاً متوجها لمدينة “الباب” عبر قرية “الغندورة”, وأن الرتل الداعشي الثاني أيضاً قد غادر قبل ظهر الأربعاء عبر قرية عين العبيد_تل شعير_ حيمر_ ثم باتجاه مدينة “الباب”, وأنه لم يتبقى داخل “جرابلس” سوى عشرات العناصر من  داعش وهم الانتحاريين المخصصين لمراقبة المتفجرات والمفخخات والمناطق الملغمة, وكان سبق كل ذلك انسحاب المهاجرين من تنظيم “داعش” مع عائلاتهم باتجاه مدينة “الباب”, تلا ذلك خروج المدنيين من أهالي “جرابلس” إلى قرى الريف الغربي للمدينة خوفاً من ضراوة الاشتباكات المتوقعة داخل المدينة.
ومع ساعات ما بعد الظهر تم إعلان مدينة “جرابلس” محررة مع بقاء الحذر من عمليات تفجير أو مفخخات أو مناطق ملغمة ولذلك استمرت عملية التمشيط والمراقبة واستقصاء المعلومات من بعض المدنيين الذين كانت لديهم بلاغات عن سيارات مفخخة من قبل “داعش” مركونة بأماكن خفية.
لكن أمام هذا الواقع وأمام تلك الحشودات تبرز نقطة غاية بالأهمية وتتمثل بأن حجم القوات التي ضختها تركية للعملية من الجيش التركي وحجم الجيش الحر المشارك تمثل تحقيق أهداف تفوق هدف تحرير مدينة “جرابلس”, وهذا ما فسرته التصريحات التي خرج بها لاحقاً الرئيس التركي “أردوغان” عندما قال: أهدافنا تتعدى تنظيم “داعش” وتشمل كل إرهابي ميليشيات “صالح مسلم” الإرهابية والتي تمثل الذراع العسكري الآخر لحزب العمال الكوردستاني, وبالتالي فالعملية لن تقتصر على عملية حدودية بأهداف تكتيكية صغيرة بل تتعداها لتشمل تحرير مدينة “الباب” واستعادة مدينة “منبج” التي رفع الأميركيون الغطاء عنها عندما قال نائب الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الذي يزور “أنقرة” أن الولايات المتحدة الأمريكية ستطلب من ميليشيات “مسلم” الانسحاب لشرق الفرات وأن أي قوات كوردية غربي الفرات لن تحظى بالمظلة أو دعم الولايات المتحدة الأمريكية بكلام واضح وجلي بدعم أمريكا للموقف والطلبات التركية, وبالتالي وكأن كل تلك المواقف تقدم الضوء الأخضر لتركيا لإقامة المنطقة الآمنة التي ترضي تركيا ويبحث عنها أهالي سورية.
لكن أيضاً علينا أن ندرك ونعلم أن تركيا لا تقدم خدمات مجانية للشعب السوري إنما تتقاطع مصالحها مع مصالح الشعب السوري الحر, وبالتالي فلتلك العملية أهداف ورسائل سياسية وعسكرية تركية موزعة ما بين الداخل والخارج.
خارجياً وعبر الحركة الدبلوماسية التركية استطاعت “أنقرة” من الحصول على توافقات تتجاوب مع المطالب التركية إلى حد ما وخصوصاً في موضوع عدم إقامة كانتون كوردي انفصالي على حدودها الجنوبية, وبالتالي أرادت تركيا إيصال رسالة بما معناه أنها ليست ضيفة على طاولة الحل السوري بل هي لاعب ولاعب أساسي في اختيار بنود أي توافق مستقبلي.
داخلياً وهي الرسائل الأهم لتركيا, فقد أرادت الحكومة التركية إيصال رسالة للشعب التركي الذي عانى كثيراً من إرهاب تنظيم “داعش” وإرهاب “حزب العمال الكوردستاني” ومفادها أنها لن تسمح باختراقات إرهابية جديدة وأنها مستعدة للقيام بعمليات عسكرية خارج حدودها حماية لشعبها, والرسالة الأهم كانت فتح صفحة جديدة في العلاقة ما بين الجيش التركي وشعبه عبر عمليات عسكرية يقدم فيها الجيش تضحياته كنوع من الاعتذار والخدمة للشعب التركي الذي كان له موقفاً بارزاً في إسقاط الانقلابيين.
بالنسبة لفصال الجيش الحر فقد قدمته تركيا بأبرز صورة من خلال قدرته على التخطيط والالتزام والانضباط العسكري وأنه يصلح ليكون الذراع العسكري لعمليات الحرب على الإرهاب في الأيام القادمة وأن يكون مصدر ثقة للتحالف الدولي وليس فقط لتركيا.
تحرير “جرابلس” هو البداية ورأس الجسر الذي ستنطلق منه العمليات لتشمل مناطق أوسع وأعم وقد تصل للطبقة والرقة, والجيش الحر أمام اختبار على مستويين:
المستوى الأول: مدى قدراته العسكرية وانسجامه بالتعامل مع القوى الدولية والعمل بمظلة التحالف الدولي في حربه على الإرهاب مع عدم إغفال إرهاب “الأسد” إذا ما تم اعتماده.
المستوى الثاني: وهو الأهم, ويتمثل بطريقة تعامل الجيش الحر وفصائله ومسلحيه مع كافة المكونات الشعبية المتواجدة في مدينة “جرابلس” والقرى المحيطة بها, ومدى قدرته على تأمين الحماية لهؤلاء ومنع أي ظلم أو انتهاك لحقوق تلك المكونات وحماية السكان الكورد والآشوريين والتركمان وأي مكون يتواجد في المنطقة قبل حماية المكون السني وتأمين مصالحهم في منطقة ستشكل نقطة مراقبة لتصرفات الجيش الحر وطريقة تعامله مع تلك المكونات.
المعركة لم تنتهِ بعد, وطبول الحرب ما زالت تٌقرع, وبالتأكيد قد تكون هناك بعض المفردات غير واضحة بالنسبة للشعب وللثورة السورية وهو السؤال الذي يٌؤرق معظم السوريين: صمت طهران, القلق الخجول لروسيا, التخلي الأمريكي عن الأكراد غربي الفرات, شبه القبول بمنطقة آمنة شمال سوريا, كل ذلك له ثمن … ما الثمن الذي يمكن أن تقدمه تركيا؟؟
العميد الركن أحمد رحال
محلل عسكري واستراتيجي



المصدر: العميد الركن أحمد رحال: جرابلس حرة … والمنطقة الآمنة تدق الأبواب

انشر الموضوع