مايو 3, 2024

باريس – بعد أن حلّ الرئيس التونسي قيد سعيد البرلمان الشهر الماضي، وقبله المجلس الأعلى للقضاء، أصدر الرئيس الجمعة الماضي مرسوما يقضي بتغيير أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.

وخلّف مرسوم تغيير تركيبة الهيئة، التي تعد واحدة من آخر الهيئات المستقلة في تونس، جدلا كبيرا وردودا منددة بهذا القرار “غير الدستوري” من قبل عدة أحزاب وشخصيات ومنظمات وطنية تونسية.

ولمعرفة خلفيات هذا القرار، وتفاصيل هذا المرسوم المثير للجدل وارتداداته القانونية والسياسية، كان للجزيرة نت هذا الحوار الخاص مع الرئيس السابق للهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس كمال الجندوبي.

الجندوبي ناشط حقوقي تونسي معروف وطنيا ودوليا في مجال حقوق الإنسان، وقد تقلّد عدة مناصب سياسية وفي عدد من الجمعيات، وهو الرئيس الشرفي للشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان. كما شغل منصب رئيس فريق الخبراء الخاص باليمن التابع لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة. وكذلك منصب وزير حقوق الإنسان والعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني حتى يناير/كانون الثاني 2016.

وقد تطرق الحوار إلى التغييرات الجوهرية التي أحدثها الرئيس سعيد على هيئة الانتخابات، وتأثيراتها على مصداقية هذه الهيئة الدستورية في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، فضلا عن تراجع هامش الحريات وحقوق الإنسان في تونس منذ الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها سعيد في يوليو/تموز 2021.

وهذا نص الحوار:

  • بعد صدور مرسوم الرئيس سعيد الخاص بتغيير الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، كيف تقرأ هذا المرسوم الذي خلّف جدلا واسعا في الساحة السياسية التونسية؟

حسب رأيي، هذا المرسوم كما جاء في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية)، يفترض قراءتين، واحدة قانونية، والأخرى سياقية من خلال ما ورد فيه.

فمن الناحية القانونية ووجهة نظر النص والتغييرات التي طرأت عليه، والتي شملت أساسا تركيبة الهيئة وتعيينها وإعفاءها والإدارة الداخلية لمجلس الهيئة، نجد أن هناك تغييرات جوهرية تمس من حياد الهيئة واستقلاليتها بالفعل.

ويتعلق هذا خاصة بطريقة التعيين. مع الإشارة إلى أنه حتى بالنسبة للهيئة التي أصبحت سابقة، هناك عدة تحفظات على طريقة تعيينها. وهي خاضعة للتأثير الحزبي عوضا عن الكفاءة. ورغم ذلك قامت بواجبها على الوجه الأكمل، وأكملت الانتخابات.

والمشكلة في النص الجديد أنه سقط في الفكرة نفسها والفخ ذاته، بل عمّقها أكثر، وعكس النص السابق والذي فيه نوع من الشفافية ويمكن أن تتبعه أمام المحاكم الإدارية، فإن النص الجديد الذي يمنح رئيس الجمهورية حق التعيين ليس فيه أي نوع من الشفافية، والأغرب أنه لا يمكن الطعن فيه وتتبعه أمام المحاكم.

وهناك مسألة أخرى هامة، وهي عدد أعضاء الهيئة الذين أصبحوا 7 أعضاء عوضا عن 9 أعضاء. وهذا ما يجعل النصاب يكون 4 أعضاء إذا حضر كل أعضاء الهيئة، أو 3 أعضاء إذا حضر 5 أعضاء، وبهذه الطريقة ندرك أن كل الأمور تصب في مصلحة رئيس الجمهورية. وكذلك بالنسبة للمنح التي سيتم تحديدها من قبل رئيس الجمهورية.

وبالنسبة للسياق، فإنه سياق حالة الإجراءات الاستثنائية التي نعيشها منذ يوليو/تموز 2021، والتي طالت أكثر من اللازم. وفي غياب العمل بالدستور في هذه المرحلة فإن الأمر الرئاسي رقم 117 يبقى هو المرجع لأي إشكال قانوني في المرسوم المتعلق بالهيئة الجديدة، وهذا يعتبر أمرا خطيرا.

وفي النهاية من الواضح أن طريقة الاختيار والتعيين ستمكّن قيس سعيد من أن يضع يده على تركيبة الهيئة، ومن المؤكد أن هذه الهيئة تخدم أهداف رئيس الجمهورية ومشروعه الفردي.

  • هل صحيح أن قرار سعيد استبدال أعضاء الهيئة يمثل “تركيزا للحكم الفردي المطلق”، كما جاء في ردود أفعال بعض الأحزاب والشخصيات الوطنية؟

الأكيد اليوم هو أن تونس أمام حكم فردي مطلق، لأننا لسنا في دولة القانون، وهناك فاعل واحد سياسي هو رئيس الجمهورية، فهو الذي يعين ويقرر ويحكم، وهو الذي يسيّر كل مفاصل الدولة، وقراراته لا تقبل الطعن، وحتى الحكومة وجودها شكلي بالأساس. وليس هناك أي سلطة سياسية معارضة.

  • ميزة هذا المرسوم مثل بقية المراسيم التي أصدرها الرئيس سعيد غير قابلة للطعن أمام المحاكم، فهل نحن أمام رئيس ممنوع من المساءلة القانونية والتتبع القضائي؟

للأسف الشديد نحن اليوم أمام دولة الأمر الواقع، ولسنا في دولة القانون. وفي دولة الأمر الواقع، لا يمكن أن نطعن في هذا النص والمرسوم أو بقية الأوامر أمام المحاكم. وهل يمكن أن نشتكي ممارسات رئاسة الجمهورية؟ طبعا لا.

وهذه المراسيم التي اتخذت في مرحلة استثنائية كان من المفروض أن تدوم فترة قصيرة، ولكنها اليوم تتواصل إلى ما لا نهاية، وستتواصل حتى موعد الانتخابات القادمة.

والرئيس اليوم يحكم وحده دون أي استشارة أو محاسبة أو متابعة من الهيئات الاستشارية أو الدستورية. خاصة بعد حل البرلمان وحل كل الهيئات الدستورية. وفي غياب الشفافية أو التشاور مع الأحزاب أو مكونات المجتمع المدني يقرر قيس سعيد ما يريد.

  • هل يمكن القول إن هذه الهيئة حملت في تركيبتها الجديدة وطريقة تعيين أعضائها كل شروط زوالها وعدم مصداقيتها واستقلاليتها؟ بعبارة أخرى هل الهيئة الجديدة “ولدت ميتة”؟

لا يمكن أن نقول ذلك، لأننا لا نعرف الأشخاص الذين سيتم تعيينهم. ولكن من خلال نص المرسوم وطريقة تعيين الأعضاء نستطيع أن نقول إن الاستقلالية والمصداقية الوظيفية للهيئة أصبحت معدومة ومشكوكا فيها.

ومع ذلك فإن الأشخاص الذين سيعيّنون كأعضاء في الهيئة سيلعبون دورا مهما، إما في تخفيف الضغوط على الهيئة والمضي بها نحو نوع من الاستقلالية، أو في زيادة التبعية لرئيس الجمهورية.

أعتقد أن صفة الاستقلالية، التي اقترنت بالهيئة، قد ضاعت لأن أهم ما في اسم الهيئة هو الاستقلالية، واليوم نحن مع هذه الهيئة الجديدة يمكن أن نطلق عليها اسم الهيئة “المستلقية” للانتخابات، بمعنى أنها خاضعة للرئيس، وبالتالي فصفة الاستقلالية نُزعت عنها.

  • تتكون الهيئة الجديدة، حسب المرسوم، من 7 أعضاء من بينهم 3 من هيئات الانتخابات السابقة يختارهم الرئيس نفسه، وهذا يعني أنه يمكنك الترشح لهذا المنصب، فهل أنت جاهز وموافق على المشاركة في الهيئة الجديدة، ولتكون شاهدا على هذه المرحلة؟

صحيح أن نص المرسوم يمكنني من الترشح للهيئة الجديدة، ولكنني بخلاف عدم رغبتي في الترشح، أعتبر أن هذا النص الذي أصدره قيس سعيد يكرّس خضوع الهيئة الجديدة وعدم استقلاليتها، وبالتالي لا يمكن لي بأي حال من الأحوال أن أكون عضوا في هذه الهيئة، هذا مستبعد تماما.

وحتى الخبرة والتجربة التي يبحث عنها النص بين السطور من خلال الاستعانة بأعضاء سابقين من الهيئات السابقة، لا يمكن الاستفادة منها وتطبيقها اليوم، لأننا في سياق غير السياق التي كانت فيه الهيئات السابقة مثل هيئة 2011 التي كنت رئيسها.

اليوم نحن لسنا في سياق ما بعد ثورة أو سياق ديمقراطي، اليوم نحن في دولة الأمر الواقع، وهناك ضربة قوية للمسار الديمقراطي، وأستطيع أن أؤكد أننا لا نستطيع الحديث بتاتا عن مسار ديمقراطي لأن كلمة الديمقراطية لا وجود لها في قاموس قيس سعيد.

فكيف لي أن أقبل أن أكون شريكا في هذا المسار الذي لا يخدم المسار الديمقراطي وإنما يسير ضده. في النهاية أنا لا أقبل أن أكون شاهد زور على هذه المرحلة غير الديمقراطية.

  • من الواضح أن الرئيس سعيّد، كما أعلن مرارا، ماض في تنفيذ برنامجه الذي يشمل تعديل الدستور وإرساء نظام رئاسي بدلا من النظام شبه البرلماني، فهل بالعودة إلى النظام الرئاسي واستحواذ الرئيس على كل السلطات تكون تونس قد عادت إلى مربع الدكتاتورية الأول؟

لا، لم نعد إلى مربع الدكتاتورية، ولكننا في الطريق إلى ذلك رغم أننا لم نصل بعد. والدليل على ذلك أنه ما زالت في تونس، رغم كل شيء، معارضة ومنظمات مجتمع مدني تتحرك.

وأعتقد أن المستهدف في المرحلة القادمة هو المجتمع المدني من خلال مرسوم قادم، لأن المجتمع المدني هو الحارس للتحول الديمقراطي. ورغم تحفظي على كلمة دكتاتورية، فإنني أعتقد أننا نسير في هذا الاتجاه وهذا الطريق، خاصة في ظل دعم المؤسسة الأمنية والأجهزة العسكرية لتوجه الرئيس.

وربما ما يؤزم الوضع الراهن أكثر ويدفع نحو تواصل مرحلة الإجراءات الاستثنائية لمدة أطول من الزمن هو الرصيد السلبي للمرحلة السابقة والعشرية السابقة، التي حكمت فيها النهضة وأتباعها، والرئيس سعيد واع بهذا ويستغله لصالحه.

أعتقد أنه من خلال هذا المرسوم أصبحت معالم مشروع قيس سعيد السياسي واضحة وجلية، وما يريد الوصول إليه هو نظام رئاسي تحديدا، ويكون لدى الرئيس سلطات واسعة وقوية جدا.

وهذا النظام الرئاسي يجب أن تخلق له قاعدة مؤسساتية سياسية. عن طريق تغيير قاعدة الانتخاب على الأفراد وليس على القوائم، لكي توفر للرئيس قاعدة وأغلبية برلمانية، ولكن هذا البرلمان سيكون شكليا لا غير وليس له قيمة.

وفي هذا الصدد والإطار جاء مرسوم تغيير هيئة الانتخابات، وكأنها عملية وضع يد عليها، ولذلك لابد لهذه الهيئة من أن تكون طيّعة في يد الرئيس حتى يستطيع تنفيذ مشروعه على الوجه الأكمل.

  • في ظل الاعتداءات المتكررة على الصحفيين والتضييق على حرية التعبير، ومع المحاكمات العسكرية للمدنيين والإقامات الجبرية، وتراجع تونس في تصنيفات حقوق الإنسان من قبل المنظمات الحقوقية الدولية، كيف تنظر إلى تراجع الوضع الحقوقي في تونس؟

أتفق تماما مع هذا التشخيص، وأضم صوتي، مثلما فعلت سابقا، إلى كل الأصوات الحرة التي تندد بالممارسات القمعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتندد بالتوقيفات التعسفية والإقامات الجبرية ومحاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية.

وأندد بما تعرّض له مهدي بن غربية من تضييق في الفترة السابقة، وكذلك أندد بالتعذيب والعنف البوليسي والتوقيفات والممارسات المهينة ضد الناشطين والمواطنين.

وكل هذا يدل على أنه لم يكن هناك إصلاحات حقيقية طيلة العشر سنوات الماضية، إذ بقيت الترسانة القانونية القمعية السابقة على حالها، ولم تقع إصلاحات جذرية حقيقية على كل المستويات. وربما هذه الإصلاحات الجذرية تتطلب نظرة بعيدة المدى، ويلزمها عقود لاعتمادها.

صراحة لدي تخوفات كبيرة جدا من الناحية الحقوقية، لأنه هناك انحراف كبير في الحريات وحقوق الإنسان، وهناك تضييق كبير على حرية الصحافة. والعنف البوليسي أصبح غولا لابد من إيقافه، وهذا شيء مخيف، خاصة وأن الأجهزة الأمنية استرجعت هذا الشعور بالإفلات من العقاب، وهذا خطر على حرية الصحافة والتعبير.

اقرأ ايضاً: أفضل اشتراكات القنوات العربية (عالية الجودة)

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك