مايو 5, 2024

مدة الفيديو 02 minutes 39 seconds

نابلس – هما توأمان في العمل لا في العمر، لكن سعيد ويوسف الترتير شبيهان وشقيقان فعلا ورفيقان منذ 35 عاما في مهنة فريدة ووحيدة، وصارا رائدا صناعة الأهلّة والمآذن وقباب المساجد ليواصلا مهمة بدأها والدهما الحاج سليم الترتير (أبو السعيد) قبل نصف قرن أو أكثر.

قصدنا “سمكرة الإخلاص” في شارع الساقية وسط مدينة نابلس (شمال الضفة الغربية) حيث كان الشقيقان الترتير يوشكان على الانتهاء من صنع واحدة من المآذن للشروع في أخرى، فالحاجة إلى المنتج كبيرة لا سيما أنهما ينفردان بهذه الصنعة دون سواهما في فلسطين.

الشقيقان سعيد ويوسف الترتير وهما يركبان القطع الأخيرة للمئذنة (الجزيرة)

وبفارق سنتين يكبر سعيد شقيقه يوسف وهو ما جعله يُبكّر بالعمل مع والده بعد أن غادر مقاعد الدراسة ورأى في الصنعة مستقبله، أما يوسف فقد أنهى تعليمه بالثانوية العامة وعاد إلى الورشة ليبدأ مشواره مع أخيه، وواصل الاثنان العمل وحفظ وصية والدهما قبل أن يرحل بصيانة الصنعة.

والسمكرة، كما يعرفها الشقيقان الترتير، فن العمل بالصاج (الصفيح) المعدني سواء أكان المعدن من النحاس أم من الستانلس ستيل الذي يعدّ الأكثر طلبا لديمومة لمعانه وتحمله عوامل الطبيعة المختلفة، وتطويعه بما يخدم الشكل المراد صنعه مئذنة كانت أم هلالا أم قبة.

آلة تسمى الملف تستخدم للف الصاج موجودة منذ إنشاء المعمل في عام 1968 (الجزيرة)

من التصنيع حتى التركيب

وعن قرب شهدنا في “سمكرة الإخلاص” -الاسم الذي أطلقه الترتير الأب على معمله تيمّنا وفرحا بطفلته إخلاص التي رُزقها في اليوم الأول لافتتاحه عام 1968- عملية التصنيع التي تمر بمراحل عدة أهمها القص ومن ثم الثني واللف والنقش (الزخرفة) وانتهاء باللحام.

وبعد اللحام بالدق بواسطة ماكينة خاصة بذلك، تجمع أجزاء القطعة المراد صنعها وتلحم ثانية بلحام الأكسجين، ويقول سعيد الترتير (50 عاما) -للجزيرة نت- وهو يُدوِّر بين يديه مئذنة جديدة إن آلية التصنيع لديهم “يدوية” وذلك أيسر لهم في التعامل مع الصاج.

ويضيف “في الورشة 7 آلات جلبها والدي من يوغسلافيا منذ أنشأ الورشة ولا تزال تعمل حتى الآن بكامل طاقتها، ولم يتغير كذلك أي من معالم المحل أو معداته”.

عدد من الأدوات التي تستخدم في الصناعة (الجزيرة)

وهذه الآلات هي المثنى بشقيه الصغير والكبير، والملف (لسحب الصاج)، وآلة الكورنيش (النقش والزخرفة)، ولحَّام الدق، والمقص، ولحَّام الأكسجين، وكلها يدوية وليست كهربائية، وهي أكثر أمنا وراحة لهما ولهذا فهما يرفضان استبدالها بأخرى حديثة.

وثمة أدوات أخرى كثيرة عمرها من عمر المعمل بدت كلوحة فنية وهي معلقة على الجدران، مثل المقابض (الكماشات) والمقصات والمطارق الخشبية المستخدمة في تصحيح الصاج، فالمطارق الحديدية تحدث أثرا وليست ملائمة في كثير من المواضع.

وبعد التصنيع يكون التركيب، وهذه المرحلة مقسمة بين مكانين، أحدهما داخل الورشة عبر تجهيز المئذنة المكونة من ماسورة وطُبَب (أطباق دائرية من الصاج تتوسط المئذنة) مع الهلال المزين بعبارة “لا إله إلا الله.. محمد رسول الله”.

والمكان الآخر يتمثل بالمسجد، وهنا يمهر الشقيقان في الصعود إلى المئذنة والتركيب، وكلتا المرحلتين داخل الورشة وخارجها تتطلب تعاونهما وخبرتهما.

مسجد الحاج نمر النابلسي في مدينة نابلس ويعلو مئذنته أحد الأهلة من صناعة الشقيقين الترتير (الجزيرة)

على آخر طراز

ومنذ بزغ فجر الإسلام ظهرت الحاجة إلى المئذنة، ولكنها لم تُبنَ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بلالا ليصعد فوق المسجد ويؤذن، ويُجمع مؤرّخو المسلمين على أن المآذن ظهرت في عصر الدولة الأموية، وبرزت بأشكالها المختلفة كشواهد دالة على إسلامية الأماكن.

وتتنوع المآذن والقباب والأهلة في الشكل والحجم، فأصغر الأهلَّة متر ونصف المتر وأكبرها يبلغ حتى 4 أو 6 أمتار كالهلال الذي صنعه الشقيقان لمئذنة أحد المساجد ببلدة سلواد شمالي مدينة رام الله (وسط الضفة الغربية)، وتوصف بأنها أطول المآذن في الضفة.

أما أكبر القباب -كما يقول يوسف ترتير (48 عاما)- فكان قطرها 12 مترا وارتفاعها 6 أمتار، وأعدّت لمسجد في قرية معاوية داخل فلسطين 48، وهناك أيضا كانت باكورة عمل الشقيقين بصنع مئذنة في قرية كابول.

ويتقن الشقيقان المهنة كاملة، لكنهما يتبادلان الأدوار، فهذا يتفنن في القص والتركيب، وذاك كحال يوسف يبرع في النقش والزخرفة على الصاج ويقول إن “الزخرفات تتنوع بين الضرس والجُل والخط المائل والمنفوخ، وهناك نقشة البقلاوة أيضا”، وكلها تضفي صبغة جمالية على العمل.

وبطرق مختلفة يصنع الشقيقان المئذنة والقبة التي يريدها القائمون على المساجد، ومنها مآذن العهد الأموي وأخرى للمملوكي وثالثة للعباسي والصفوي، وكذلك للعثماني الأكثر طلبا، وكل ذلك يعرفه الشقيقان، فهما يجتهدان في اكتساب المعرفة والخبرة لتطوير صنعتهما.

في نابلس صنع الشقيقان الترتير ووالدهما آلاف المآذن والأهلّة منذ أكثر من 3 عقود (الجزيرة)

حلم الشقيقين وأملهما

وتعرف محافظة نابلس أنها ثالث محافظة فلسطينية تنتشر فيها المساجد، فهي تضم فوق 300 مسجد، بعضها عمري قديم وأخرى على الطراز العثماني، وأغلبها حديث البناء.

ولمّا كان لكل عصر ما يناسبه فلم تقتصر صناعات الحاج سليم الترتير بعد إنشائه “سمكرة الإخلاص” على المآذن والأهلِّة والقباب وحدها، فقد صنع الأواني المنزلية من الصاج والمكاييل (إبريق تعبئة الكاز)، وأدوات الاستحمام من الطاسة والسخّان إضافة إلى خزانات الماء، وكلها تكاد تتلاشى، فاتجه الشقيقان لصناعة المدافئ ومداخن البيوت ومناقل النار.

ما من مكان في فلسطين إلا وتركت فيه عائلة الترتير بصمتها، وتفرّدت بصناعتها وأنتجت مئات من المصنوعات، وهو ما توثقه جدران المعمل الذي تعلوه صور مصنوعاتهم وأماكن تركيبها، ولهذا فإن أسمى ما يأمله الشقيقان -وهما وحيدا والدهما من الذكور- أن يرث أبناءهما المهمة ويحافظوا عليها.

مزيد من الأخبار http://www.qamishly.com

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك