أبريل 18, 2024

أربعة عشر عاما تمر على تحرير الشيعة العراقيين وتوليهم الحكم في العراق، وسنوات على الثورات العربية التي أريد لها أن تصطبغ بصبغة إسلامية سنية، تم فيها تدمير حواضر المشرق المدنية.

إبراهيم الجبين: العرب

قبل أيام قليلة تصدرت الصفحة الأولى لصحيفة “العرب” اللندنية الكلمات التالية “اتضاح ملامح محور عراقي شيعي معتدل ومنفتح على العرب”. وكشفت مصادر خاصة للصحيفة حينها، عن قيام شخصيات بارزة في قيادة الحشد الشعبي خلال الأيام الماضية بمناقشة مستقبلها السياسي، في ظل “تنامي التنسيق بين حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي مع الولايات المتحدة والسعودية، وما يمكن أن يسببه ذلك من أضرار لحظوظها الانتخابية”. إضافة إلى ورود معلومات عن زيارات لمسؤولين إيرانيين بارزين إلى العراق مؤخرا، لإعداد تقييم بشأن خارطة التنافس الشيعي المتوقع خلال الانتخابات البرلمانية المقرر تنظيمها في أبريل 2018.

بالطبع لم يكن مانشيت كهذا، ولا معلومات كهذه، ممكنين خلال السنوات الماضية، منذ الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، وما تلاها من تشكل محاور نقيضة تغذي الطائفية والمذهبية ما بين مكونات الشعوب العربية، وتشطرها إلى شيعة وسنة.

وقبل سقوط العاصمة العراقية بغداد في العام 2003 كان قد صدر في لندن كتاب للأميركي غرهام فولر بالتعاون مع العراقية رند رحيم فرانكي، كان عنوان الكتاب لافتا حينها، “الشيعة العرب المسلمون المنسيون”.

في ذلك الوقت شرح فولر الغرض من كتابه ذاك لوكالات الأنباء، بالقول إنه “من الدول الخمس المهمة التي فيها شيعة عرب، لبنان، العراق، البحرين، السعودية، والكويت، على الأقل هناك بلدان كانا ناجحين، هما الكويت ولبنان، فقد أعطيا الشيعة من خلال الديمقراطية والانفتاح السياسي

فرصة لتطوير صوت لهم هدّأ الوضع بشكل كبير، ولم تعد هناك مشكلة إرهاب مرتبطة بالشيعة في هذه الدول، ولكن في العراق والسعودية والبحرين فإن الوضع خطير للغاية”.

أثار كتاب “الشيعة العرب” العديد من الجدالات، بسبب تصنيفه “الصادم”، حينها، للشيعة كمواطنين من الدرجة الثانية في البلدان العربية المذكورة، بينما جاء الرد على ذلك، بالقول إن السنة أيضا هم مواطنون من الدرجة الثانية، وأن الدرجة الأولى محـجوزة للأنظمة الحاكمة والمقربين منه فقط.

ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم، جرت مياه ودماء كثيرة تحت الجسر، كما يقال. وها قد مرت أربعة عشر عاما على تحرير الشيعة العراقيين وتوليهم الحكم في العراق، وسنوات على الثورات العربية التي أريد لها أن تصطبغ بصبغة إسلامية سنية، تم فيها تدمير حواضر المشرق المدنية من صنعاء إلى الموصل وحلب وحمص وما بينها، وتهجير الملايين من السكان على يد داعش والنصرة والحشد الشعبي وحزب الله وأنصارالله والعصائب وجيش المهدي وأمثال تلك الفصائل السنية الشيعية على الأرض، وطيران ومدافع التحالفات الناشئة دوليا وعربيا لوقف الصراع هنا أو هناك. 

التشيع الديني والتشيع السياسي

حديث اليوم، يبدأ بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مع عدد من القيادات الشيعية، لتليها زيارة مشابهة لمقتدى الصدر الشخصية الشيعية العربية ذات الثقل الكبير في العراق، والاهتمام الذي أبدته الرياض به، في ما أعطى انطباعا بأن هناك مشروعا للتحالف مع الشيعة العرب يقوده نائب الملك وولي العهد محمد بن سلمان ويشرف على تنفيذه السفير السعودي السابق في بغداد ثامر السبهان والذي يشغل حاليا منصب وزير دولة لشؤون الخليج العربي في وزارة الخارجية السعودية.

ولكن هل المهمّة سهلة حقا في هذا التوقيت؟ وهل مسار الشيعة العرب متوقف بالفعل على قرار سياسي سعودي أو غير سعودي، يفتح الباب لهم فيتدفقون من خلاله على الحضن العربي، بعد طول اتهام وتشنيع بأنهم ارتموا في “الحضن الإيراني”؟

الإسلام السني، لا يمثله الإسلام السياسي، بتياراته ومنها الإخوان المسلمون وغيرهم، كما أن التشيع العربي الديني لا يمثله التشيع السياسي الذي رأيناه في دول مثل العراق ولبنان. فالشيعة العرب مجتمعات تشبه بقية المجتمعات العربية، يشوبها الخلل ويشوبها التفرق أيضا، مثلما هو حال المجتمعات السنية أو حتى غير الإسلامية العربية. ويقول التاريخ القريب إن الخلافات فيما بين الشيعة العرب، قد تصل إلى حد الحرب المباشرة مثلما حصل بين حزب الله وحركة أمل في لبنان. أو بين الدعوة والتيار الصدري وحزب الدعوة.

لذلك لا يمكن النظر إلى الشيعة العرب بالطريقة الجمعية التعميمية التي سادت خلال الفترة السابقة، وساهم في تغذيتها صعود الأصولية السلفية التي تستعمل الخلاف المذهبي لرجم الآخر من أجل شحن السنة وتجييشهم، كما هو الحال في الضفة الأخرى، حين أريد توظيف الشيعة العرب باستعمال بعض الدعاة الذين تحولوا إلى منصات إعلامية لنشر كراهية السنة العرب.

ويقول الباحثون إن “التشيع أوسع من أي دولة”. وهذا وحده مأزق في التعامل مع قضية الشيعة العرب، فما دام التشيّع مفتوحا على الاعتناق، فهو يتهدد كتلة الشيعة العرب، لكن أيضا، الإٍسلام السني مفتوح على الاعتناق، ولعله بالفعل قد هدد أيضا الكتلة العربية التي تحمله كفكر وكمظلة وكمشروع.

وجه العالم العربي

الحضور الشيعي العربي، ظاهر أكثر مما يجري الإيحاء به، وأكثر مما يتمكن التشيع السياسي من التعبير عنه، وتبدو بلاد المغرب العربي مثالا جيدا، يبرز مسار الشيعة العرب، فهي الأرض التي ظهرت فيها أول دولة شيعية في التاريخ؛ الدولة الفاطمية. ومنها انطلق تيار كبير وصل إلى المشرق مرورا بتونس وبعدها المهدية ثم القاهرة والشام. وهي الدولة التي سقطت في عهد صلاح الدين الأيوبي. ليعيش العالم العربي سني الوجه طيلة ألف عام. لكن ثورة الخميني، الجار الإيراني، الشيعية الخالصة، واعتماد نظامه السياسي المذهب الجعفري مذهبا للدولة، في إعلان صريح على الانتماء، وإعلان مبدأ تصدير الثورة والذي لم يكن يعني سوى “دعم الشيعة” في أي مكان في الأرض، بما فيها العالم العربي وشيعته، علاوة على نشر التشيع، ثم ظهور حزب الله في لبنان، واتخاذه طريق “المقاومة” في الصراع مع إٍسرائيل، واحتلال العراق وتخلص الشيعة العراقيين من اضطهاد نظام صدام حسين (السني) لهم، والاستسلام التام لنظام بشار الأسد للهيمنة الإيرانية، مبكرا، وقبل العام 2011، وفي مخالفة كبرى لسياسة والده الذي كان يدعم الإيرانيين بمقابل، دون أن يتحول إلى بيدق في المشهد الذي عرضته الفضائيات لرجل الدين الشيعي المصري حسن شحاتة، في صيف العام 2013 والذي ظهر فيه وهو يقتل سحلا ودهسا تحت الأقدام، في ظل سيادة دولة يحكمها الإسلام السياسي السني الإخواني، كان كفيلا بإيصال رسالة واضحة على أن الحل ليس بيد الإسلاميين.

حديث اليوم عن الشيعة العرب يتصاعد بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مع عدد من القيادات الشيعية، لتليها زيارة مشابهة لمقتدى الصدر، الشخصية الشيعية العربية ذات الثقل الكبير في العراق، والاهتمام الذي أبدته الرياض به، في ما أعطى انطباعا بأن هناك مشروعا للتحالف مع الشيعة العرب

أصلاء أم أهل ذمة

وفي مقابل هذا، تبرز سياسات التعامل مع الشيعة العرب على أنهم أهل ذمة، وفق ما يسمى بحماية الأقليات، المتاهة التي لا نهاية لها، والتي لا تقوم على المساواة والمواطنة وسيادة القانون على الجميع، بل تكرر تجارب المحاصصة التي وقعت في لبنان وفي العراق، ولم تؤد إلى شيء سوى إلى حال البلدين الذي لا يخفى على أحد.

وفي نفس الوقت يرجع البعض بدء التوتر الكبير الذي أحدث شرخا هائلا ما بين السنة والشيعة العرب، إلى لحظة إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين صباح السبت أول أيام عيد الأَضحى في الثلاثين من ديسمبر عام 2006 وسط هتافات مذهبية شيعية رفعت اسم مقتدى الصدر ذاته. من لحظتها والشيعة العرب والسنة العرب، يتبادلون مشاهد العنف والانتقام والثأر، في ما بدا وكأنها دوامة لن تتوقف في يوم من الأيام.

ولكن السنة العرب والشيعة العرب، لم يعيشوا على هذه الأرض، فقط منذ أعوام قليلة مضت، بل مر زمن على وجودهم إلى جوار بعضهم البعض، فهل كانت صراعاتهم في ركود أم كانوا في هدنة؟

المؤرخ السياسي والأكاديمي اللبناني وفيق إبراهيم، وهو مقرب من حزب الله، يقول إن الألف عام الماضية لم تشهد ظهور قائد شيعي واحد، وأن الأمر كان متروكا فيها للسنة، وكان الشيعة العرب موضوعون جانبا، ويضيف إبراهيم أن الوقت حان من أجل الاعتراف بقدرة الشيعة العرب على القيادة.

من الرمضاء إلى النار

إيران التي لم يعد يستطيع حتى زعماء التيارات الشيعية العربية إنكار أنها إنما تستثمر في الشيعة العرب من أجل توسيع نفوذها ومشروعها السياسي القومي، لم تكن أرحم بالشيعة العرب، فالوثائق تقول إن العداء الإيراني للشيعة العرب لا يقل عن عدائه للسنة للعرب، ويؤكد المفكر الإيراني والأستاذ بجامعة طهران صادق زيبا الكلام بقوله “أعتقد أن الكثير منا، سواء أكان متديناًأم علمانيا، يكره العرب”.

فعنوان “الحجر الصبور” الشهير يشير إلى رواية إيرانية يقول كاتبها جوباك “إن ما جلبه العرب إلى إيران والمتجسد بالإسلام، هو أداة اضطهاد وخصوصا تجاه المرأة”.

الكثير من الأمثلة المشابهة وردت في كتاب صدر عن دار “قدس” في بيروت عنوانه “صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث” وضعته الباحثة الأميركية جويا بلندل سعد وترجمه صخر الحاج حسين، وترى سعد أن “العربي” في الأدب الفارسي هو “الآخر” لا “الأخ” أو “الجار”. فالمفكرون الإيرانيون يلقون جانبا من تخلف بلدهم على الإسلام. إيران، في نظرهم، ساسانية وإخمينية دمّر حضارتها “بدو متوحشون”.

أما المفكر الإيراني المعاصر دوراج فيعتقد أن الإسلام الشيعي يشكل ضرورة لمفهوم النزعة القومية الإيرانية، ويضيف “لقد تمت أسلمة إيران، ولكن في عيون أكثر الإيرانيين، الإسلام في جوهره عربي، لذا فهو غير إيراني. أما الآخرون فيقولون إن الإسلام الشيعي هو إسلام (مقولب إيرانيا)، أي إيراني. وهو في صميمه إيراني”.

لكن كيف ينظر الشيعة العرب إلى كلام من هذا القبيل، وهم الذين يفاخرون بأنهم ساهموا مثل السنة، وربما في جوانب تفوقوا على الأخيرين، في بناء الحضارة العربية والإسلامية؟ منذ أبي الأسود الدؤلي واضع النحو وحتى المتنبي والفراهيدي وابن السكيت والكلبي وصولا إلى العصور الحديثة التي لم تخل من شاعر أو مفكر أو عالم أو سياسي يتحدر من المذهب الشيعي بفروعه وطوائفه. ولطالما شكل “الرفض” شكلا أساسيا من أشكال التغيير في الذهنية والنمط والعمارة والفنون والهندسة والآداب، ولم يكن ليستقيم حال الحضارة العربية الإسلامية بتغلب هذا الجناح أو ذاك على الآخر، بل بالمزيد من التناقص الخلاق في ما بينهما، وهو ما يقوضه وباء المظلومية الذي تحول إلى عدوى اليوم، شملت العرب السنة أنفسهم. ومن ينظر اليوم إلى ما تحولت إليه صورة الشيعة العرب، بعد أن أصبحوا مجرد “حشد شعبي” وما آلت إليه صورة السنة العرب بعد أن باتوا دواعش وقاعدة وسلفيين وفلولا هنا أو هناك، يدرك أن الحال واحد.

اشتباكات بحاجة إلى حلول

من يتأمل الصورة التي تجمع مقتدى الصدر بولي العهد السعودي التي وزعت الأسبوع الماضي، يستذكر حديث العالم الأنثروبولوجي العراقي الراحل علي الوردي الذي كتب “لقد ألصقَ الوهابيون نزعة التكفير لكل من عاداهم وأعطتهم الحجة لقتال المخالفين لهم ولولاها لما تهافتت القبائل البدوية على الدخول في الدعوة وأبدت فيها ذلك الحماس منقطع النظير، فالبدو الذين قامت ثقافتهم الاجتماعية على الغزو والنهب منذ قديم الزمان لا يمكن أن يتركوا ذلك ما لم يجدوا مجالا آخر يعوضهم عنه على وجه من الوجوه”.

لقد كان للوهابية التي تنتشر في السعودية وقطر وتتخذها الدولة مذهبا للتشريع والحكم، تاريخ مشتبك مع العراق العربي الشيعي، ففي العام 1801 هاجم الوهابيون عانة وكبيسة، ونهبوا بعض بيوتها وقتلوا أربعين شخصا من سكانها. وبعد سنة واحدة هاجموا كربلاء بهدف هدم ضريح الحسين باعتبار زيارته من البدع.

ويذكر ستيفن هميسلي لونكريك في كتابه “أربعة قرون من تأريخ العراق الحديث” أن أكثر من أربعة عشر ألف مقاتل اقتحموا كربلاء يوم عيد الغدير، هاتفين “اقتلوا المشركين”. فهدموا القبة التي تقع فوق ضريح الحسين، واقتلعوا القضبان المعدنية والسياج ثم المرايا وهدموا أجزاء من القبر ونهبت النفائس والحاجات الثمينة من هدايا الباشاوات والأمراء والملوك، كما يؤكد أيضا العلامة والمؤرخ الموصلي ياسين العمري في كتابه “غرائب الأثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر”.

أما إيران ذلك الزمان، فقد أعلن شاهها فتح علي القاجاري الحداد العام في كل أرجاء البلاد ولبس السواد وأرسل احتجاجا إلى والي بغداد، ورفع صوته مطالبا بالثأر من الوهابيين السنة الذين ارتكبوا تلك الجريمة، وهدد بأنه إن لم يحصل ذلك، فسيقوم بنفسه بمهاجمة بغداد واحتلالها.

والسؤال الهام الذي يطرحه المشهد اليوم، على أي مشروع عربي يراد للشيعة أن يعودوا؟ على مشاريع تكفيرية ترفض الآخر؟ أم على مشاريع تتعامل مع الشيعة على أنهم استثمار جديد؟ هل يحدث هذا قبل أن تتم مراجعة الفكر كله، على الضفتين؛ الفكر الذي يرفض الآخر ويتعامل معه على أنه غنيمة تاريخية لا شريكا في الوجود؟ وهل يتحقق هذا بمشاريع دينية قديمة جديدة؟ أم بمشاريع مدنية تجمع السنة والشيعة العرب في طريق تدرك ما فاتها من حداثة نهشتها الهمجيات.

المصدر : كلنا شركاء

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك