مايو 13, 2024

ألما السالم:السياسات الثقافية في المنطقة العربية
تعلو أصوات الفاعلين الثقافيين الدوليين اليوم لطرح العلاقة بين الثقافة والتنمية كأولوية، ففي يوم الثامن من حزيران عام 2016 نشرت دائرة خدمة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي (EEAS) مع المفوضية الأوروبية رسالة مشتركة بعنوان “نحو استراتيجية الاتحاد الأوروبي للعلاقات الثقافية الدولية “ولسوف يناقشها مجلس الاتحاد الأوروبي في خريف عام 2016.
جاء هذا الإجراء بمثابة متابعة لجلسات ثلاث كرّسها الاتحّاد حول الثقافة والتنمية خلال الأيام الأوروبية للتنمية في بروكسل عام 2015، وكانت قد نالت صدى لدى الحضور وأثارت الفضول والرغبة بالمتابعة. هذا بالإضافة إلى أثر ضغوط الحملة العالمية لتحالف مجموعة كبيرة من المؤسسات الثقافية والداعية إلى إدراج الثقافة على أهداف الأمم المتحدّة في تحقيق التنمية المستدامة لعام 2030 والتي تم إقرارها في أيلول عام 2015.
يمكن اعتبار مسألة التوجّه العالمي الجديد إلى ربط الثقافة بالتنمية ذات صلة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب ظروفها الجيوسياسية، ونقص الاستقرار داخليا في بلدانها، حيث أن غالبية الحكومات فيها معطّلة، وتنقصها الحوكمة، وتحكمها أنظمة فاسدة، كما لا تزال رقابتها مهيمنة على العمل الغنّي والثقافي، منتهكة بذلك باستمرار حقوق التعبير الفني. ناهيك عن أن لديها أولويات تسبق أهميّة الاستثمار في دعم الفنانين والطاقات الخلاّقة، وهي تفتقر للاستراتيجيات والسياسات الخاصّة بهذا القطاع بالربط مع تحقيق أهداف التنمية.
لكّل تلك الأسباب وسواها ذلك لا يزال التمويل الأساسي للثقافة والفنون معتمداً على الدعم الخارجي، أي على اتفاقيات التعاون الأوروبي وسواه مع دول المنطقة ويمرّ عبر المؤسسات الأوروبية الثقافية. ولذلك ينتظر الفاعلون الثقافيون – خصوصاً المستقّلين منهم – تحدّياً لمجاراة الأولويات الجديدة للمانحين الثقافيين الأجانب في المنطقة والمتعلقة بربط أجدات الثقافة بالتنمية.
على الرغم من أن العلاقة بين هذين القطاعين يتمّ تناولها في أوراق وأهداف العديد من المبادرات الفنيّة والمؤسسات الثقافية في المنطقة، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى أن تعزّز بمزيد من الأدلة والأبحاث والمرجعية المنهجية، وطرح نماذج جديدة من أشكال التطبيق على الأرض من خلال خطط المشاريع والممارسة اليومية.
أين البداية؟ تنطلق نقطة البدء من أحد تعاريف الثقافة كـ: من نحن وماذا يشكل هويتنا. ومن مفهوم الثقافة بوصفها مجموعة متكاملة من القيم والتقاليد والتراث المادي وغير المادي، والمعتقدات الدينية، ووجهات النظر العالمية، وأشكال التعبير الثقافي في سبل العيش – وبأنّ بامكان كل ذلك تسهيل تحقيق الأهداف الإنمائية SDGs.
والمدخل الثاني لهذا الطرح هو بالنظر إليه من الجانب الآخر أي من جانب قطّاع التنمية هذه المرّة، وذلك بالتشديد على أن التنمية عندما ترتكز على القيم ووجهات النظر العالمية، والمعتقدات الإيديولوجية، والرؤيا وسواها – إنمّا تصبح بذاتها فعلاً ثقافياً، مؤثراً سلباً أو ايجاباً على ثقافة المستفيدين من الجهد التنموي.
يمكن أن نلمس أحد الأدلة الصارخة على هذا الطرح في أوقات النزاعات، وكيف أنهّا عندما تضرب جذورها في الفوارق الاقتصادية وصراع القوى، تصبح عرضة للتأجيج والاستغلال من قبل الاختلافات الثقافية، وأن الصراع يؤثر سلباً على التنمية من خلال تدمير البنى التحتية، وقيم التعايش، وهجرة العقول ذات الخبرة، والحياة البشرية نفسها.
وكيف أنّه في الوقت نفسه، وعلى العكس، يبدو الفعل والتنّوع الثقافي قادراً على المساهمة في الحدّ من الفقر، وفي التعليم، وفي تطويرالمدن المستدامة والبيئة، والأمن الغذائي، والنمو الاقتصادي والاستهلاك المستدام، وأنماط الإنتاج، وحل النزاعات والمساهمة الإيجابية في بناء مجتمعات سلمية و قادرة على احتواء الجميع.
إن قاربنا الأسباب أعلاه وسواها مع الأولويات العالمية الجديدة للثقافة، ومع ظروف منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، نجد أن الوقت ملائم كي يبادر القادة الثقافيون والفنّانون والممارسون الثقافيون للعمل معاً بشكل وثيق مع خبراء التنمية، كي يمتلكون أدوات أكثر فعالية من أجل تفسير وتوفير الأدلة حول ارتباط التنمية بالثقافة واستناداً إلى الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، على مستويات تنمية الحوكمة، والتنمية المجتمعية، والتنمية الاقتصادية:
أولاً، يمكن للفاعلين تفسير وبناء الأدلة انطلاقاً من كون التنمية البشرية تقوم على أساس الحقوق والحريات، وأن ذلك يتضمّن بالضرورة المشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع، وبعدالة فرص عيش الفنون كحق من حقوق الإنسان الأساسية، وأن تلك الحقوق الثقافية مدرجة على قائمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذا من جهة ومن جهة ثانية كيف يساهم احترام التنّوع الثقافي في تحقيق المواطنة وإمكانات المواطنين كاملة بما فيها النواحي العاطفية، والروحية، والتحفيز المادي، والفكري، والتعبير عن النفس، بالإضافة إلى الأبعاد الثقافية للاستكشاف، والاحتفال وتغيير حالة الإنسان في العلاقة مع محيطه.
كما يمكن لهم بناء الأدلة حول كيف يؤدي احترام خصوصية ثقافات المجتمع المحّلي إلى دعم عملية التنمية، وكيف تنعكس إيجابا على رفاهية الإنسان، وعلى تماسك المجتمع، والإدماج والاحتواء الاجتماعي، وكيف أن الثقافة قادرة على احتضان المعرفة وعلى تأسيس عقد اجتماعي جديد، والمساهمة في دعم التشاركية  في الحوكمة والعدالة الاجتماعية والمساواة، وبناء الأدلة حول حاجة التنمية إلى الإبداع كأداة لتطوير نظم التعليم وجعلها أكثر احتواءً.   
وأخيراً يمكن لهم توضيح كيف أن حماية التراث، وتنمية الصناعات الإبداعية هي عناصر أساسية في التنمية الاقتصادية، ويمكنها أن تخلق عدالة في الفرص وتحافظ على الموارد الطبيعية، وتساهم في تعزيز الثروات وتحفيز الموارد الاقتصادية، وإظهار كيف يمكن للتنمية الاقتصادية أن تستفيد من بناء القدرات، والاستثمار الذي تحققه جميع مراحل سلسلة القيمة في مجالات الفنون..
نحن بحاجة إلى الاعتراف بأن منطقة الشرق الأوسط على الرغم من هشاشتها وعدم الاستقرار فيها، لا زالت تشهد تمظهراً كثيفاً من المواهب الفنيّة، وحراك ديناميكي للقوى الفاعلة الثقافية، وأن كافة أشكال التعبير الفني والإبداع تستمر بالازدهار، وبالتالي فإن جهود القادة الثقافيين تحتاج إلى التركيز على خلق سرديّة جديدة تدعم تجسيد الثقافة في عملية التنمية، وخلق روابط أكثر وضوحاً معها من أجل المساهمة في تحقيق أهداف التنمية العالمية، هذا بالإضافة إلى الاستمرار بالتعاضد والضغط من أجل دعم مساهمة الثقافة في هذه المنطقة المتعددة الثقافات في تمهيد الطريق لعملية تنموية شاملة، وقائمة على الحقوق والعدالة، ومحورها الإنسان.



المصدر: ألما السالم: هل ربط الثقافة بالتنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أولوية؟

انشر الموضوع