أبريل 18, 2024

ما إن يرى زائراً للمقبرة، يهرع مسرعاً بقدميه النحيلتين ليظهر مواساة تَعوّد أن يُتقنها لكسب رزقه، طفل ذو عشر سنوات، يحمل الماء وينظف قبور الموتى ويمسح عنها غبار الحزن والألم.

بخطوات سريعة يقوم بالوقوف بجانب ذوي الموتى، يرفع يديه كالفراشات إلى السماء ويتمتم بالدعاء للميت، مثل من جاؤوا تماماً، مختتماً الموقف بما قد يدر عليه رزقاً، بما يحفظ من كتاب الله، مضيفاً: «الله يرحمه، بدك انظفلك القبر»..؟؟

وبعد الانتهاء من المهمة التي أوكلت له، وتقاضي ما يجود عليه أهل الميت ثمن العمل والمواساة التي قام بها لدقائق، يمضي بين شواهد القبور ليكمل عمله مع الأطفال في استقبال الزائرين.

إسماعيل يملك عشر سنوات من الحرمان، يعمل مع عدد من الأطفال في تنظيف القبور بحسب الطلب، ولا يضيع دقيقة واحدة لطفولته التي سلبت، وسط أحاديث الموت والقبور، جوابه كان حاضراً عندما سئل ألا تخاف من العمل بين قبور الموتى..؟؟ «من شو بدي أخاف، هم ميتين وبالقبر، ما في حاجة بتخوف، واللي مات ما رح يقوم».

ينشط إسماعيل في هذا العمل اليومي في الفترة الصباحية من السابعة حتى الحادية عشرة صباحاً، أما شقيقه مصعب «14 عاما» فقد تولى مهام الفترة المسائية من الثالثة حتى السابعة مساء.

ويعود إسماعيل بِغلّتِه إلى والده الذي لا يقوى على العمل بسبب المرض نتيجة حادث سير قبل عدة سنوات.

ويعمل الطفلان الشقيقان في المقبرة الشرقية شرق مخيم جباليا، الأمر الذي يشكل خطورة عليهم ليس من الموتى ولكن من قرب هذه المقبرة على السياج الفاصل وعملهم تحت نيشان جيش الاحتلال.

إسماعيل الطفل الرجل يقول إنه أمضى عاماً ونصف العام من طفولته بين القبور وهذا العمل، وعند السؤال عن سبب تواجده في هذه المقبرة يقول «صرلي زمان بشتغل هان، ما في أي حد يصرف على أسرتي، إلا أنا وأخوي مصعب».

علامات الانكسار والخجل بدت واضحة على محيّاه، وبعد الانتهاء من تنظيف أحد القبور هو وصديق له في نفس المهنة وتقاضيهما مبلغاً زهيداً مقابل المسح والتنظيف واقتلاع العشب، يركض الاثنان بعيداً حتى يتقاسما أجر العمل المشترك، فيقع بينهما خلاف وشجار، ثم يعود إسماعيل لأنه الأصغر سناً من رفيقه ويسأل الزائر «عمو المصاري لمين، إلنا إحنا الإثنين ولا إلو لحالو»..؟؟

عدنا بعد ساعات ومع بدء الفترة المسائية والتي يناوب فيها مصعب الشقيق الأكبر لإسماعيل، وفيها يرتجف الجسد رعباً وأنت تمر بين شواهد القبور.

يقول مصعب لـ «البيان»: العمل في المقبرة أو البرية كما يصفها ليس سهلاً، هنا كل شيء يذكرنا بالموت، ويسرق منا كل لحظة يمكن أن نشعر بها بالحياة، وكلما أردنا عدم العودة للعمل في المقبرة اصطدمنا بجدار الفقر والحرمان، ولذلك نعود لكسب الرزق من هذه المهنة.

مضيفاً: نحن لا نخاف من العمل بين القبور ولا نخاف من الموتى، ولكننا نخاف أن نكبر ونبقى داخل أسوار المقبرة.

وأمام هذه الظاهرة المأساوية التي ازدادت وتيرتها أضعافاً مضاعفة مع اشتداد الأوضاع الاقتصادية الصعبة على غزة، اعتاد الجميع دون استثناء وخاصة من تطأ أقدامهم أرض المقابر لدفن موتاهم، على رؤية العشرات من هؤلاء العمال من الأطفال البالية ملابسهم، والممتدة أيديهم للتسول.

طباعة Email

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك